فصل: تفسير الآيات (42- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (42- 56):

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}
{قروناً} قال ابن عباس: هم بنو إسرائيل. وقيل: قصة لوط وشعيب وأيوب ويونس صلوات الله عليهم {ما تسبق} إلى آخر الآية تقدم الكلام عليها في الحجر {ثم أرسلنا رسلنا تترى} أي لأمم آخرين أنشأناهم بعد أولئك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشيبه وابن محيصن والشافعي {تترى} منوناً وباقي السبعة بغير تنوين، وانتصب على الحال أي متواترين واحداً بعد واحد، وأضاف الرسل إليه تعالى وأضاف رسولاً إلى ضمير الأمة المرسل إليها لأن الإضافة تكون بالملابسة، والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه، فالأول كانت الإضافة لتشريف الرسل، والثاني كانت الإضافة إلى الأمة حيث كذبته ولم ينجح فيهم إرساله إليهم فناسب الإضافة إليهم.
{فأتبعنا بعضهم بعضاً} أي بعض القرون أو بعض الأمم بعضاً في الإهلاك الناشئ عن التكذيب. و{أحاديث} جمع حديث وهو جمع شاذ، وجمع أحدوثة وهو جمع قياسي. والظاهر أن المراد الثاني أي صاروا يتحدث بهم وبحالهم في الإهلاك على سبيل التعجب والاعتبار وضرب المثل بهم. وقال الأخفش: لا يقال هذا إلاّ في الشر ولا يقال في الخير. قيل: ويجوز أن يكون جمع حديث، والمعنى أنه لم يبق منهم عين ولا أثر إلاّ الحديث عنهم. وقال الزمخشري: الأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وأفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع، وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من الجموع كقطيع وأقاطيع، وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير وهو لم يلفظ له بواحد فأحرى {أحاديث} وقد لفظ له وهو حديث، فالصحيح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرناه.
{بآياتنا} قال ابن عباس هي التسع وهي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والبحر، والسنون، ونقص من الثمرات {وسلطان مبين} قيل: هي العصا واليد، وهما اللتان اقترن بهما التحدي ويدخل في عموم اللفظ سائر آياتهما كالبحر والمرسلات الست، وأما غير ذلك مما جرى بعد الخروج من البحر فليست تلك لفرعون بل هي خاصة ببني إسرائيل. وقال الحسن: {بآياتنا} أي بديننا. {وسلطان مبين} هو المعجز، ويجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات، وبسلطان مبين كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء فقد فارقتها في قوة دلالتها على قول موسى عليه السلام. قيل: ويجوز أن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها كانت أمّ آيات موسى وأولاها، وقد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر بالضرب بها، وكونها حارساً وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلواً ورشاء، جعلت كأنها ليست بعض الآيات لما استبدت به من الفضل فلذلك عطفت عليها كقوله {وجبريل وميكال} ويجوز أن يراد بسلطان مبين الآيات أنفسها أي هي آيات وحجة بينة {فاستكبروا} عن الإيمان بموسى وأخيه نفة.
{قوماً عالين} أي رفيعي الحال في الدنيا أي متطاولين على الناس قاهرين بالظلم، أو متكبرين كقوله {إن فرعون علا في الأرض} أي وكان من شأنهم التكبر. والبشر يطلق على المفرد والجمع كقوله {فأما ترينّ من البشر أحداً} ولما أطلق على الواحد جازت تثنيته فلذلك جاء {لبشرين} ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ولا يؤنث، وقد يطابق تثنية وجمعاً و{قومهما} أي بنو إسرائيل {لنا عابدون} أي خاضعون متذللون، أو لأنه كان يدّعي الإلهية فادّعى الناس العبادة، وإن طاعتهم له عبادة على الحقيقة. وقال أبو عبيد: العرب تسمي كل من دان للملك عابداً، ولما كان ذلك الإهلاك كالمعلول للتكذيب أعقبه بالفاء أي فكانوا ممن حكم عليهم بالغرق إذ لم يحصل الغرق عقيب التكذيب.
{موسى الكتاب} أي قوم موسى و{الكتاب} التوراة، ولذلك عاد الضمير على ذلك المحذوف في قوله {لعلهم} ولا يصح عود هذا الضمير في {لعلهم} على فرعون وقومه لأن {الكتاب} لم يؤته موسى إلا بعد هلاك فرعون لقوله: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} {لعلهم} ترج بالنسبة إليهم {لعلهم يهتدون} لشرائعها ومواعظها.
{وجعلنا ابن مريم وأمه} أي قصتهما وهي {آية} عظمى بمجموعها وهي آيات مع التفصيل، ويحتمل أن يكون حذف من الأول آية لدلالة الثاني أي وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية. والربوة هنا. قال ابن عباس وابن المسيب: الغوطة بدمشق، وصفتها أنها {ذات قرار ومعين} على الكمال. وقال أبو هريرة: رملة فلسطين. وقال قتادة وكعب: بيت المقدس، وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء، وأنه يزيد على أعلى الأرض ثمانية عشر ميلاً. وقال ابن زيد ووهب: الربوة بأرض مصر، وسبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرها المفسرون. وقرأ الجمهور {رُبوة} بضم الراء وهي لغة قريش، والحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم وابن عامر بفتحها، وأبو إسحاق السبيعي بكسرها وابن أبي إسحاق رباوة بضم الراء بالألف، وزيد بن عليّ والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف. وقرئ بكسرها وبالألف {ذات قرار} أي مستوية يمكن القرار فيها للحرث والغراسة، والمعنى أنها من البقاع الطيبة. وعن قتادة: ذات ثمار وماء، يعني أنها لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها.
ونداء {الرسل} وخطابهم بمعنى نداء كل واحد وخطابه في زمانه إذ لم يجتمعوا في زمان واحد فينادون ويخاطبون فيه، وإنما أتى بصورة الجمع ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يوحد به ويعمل عليه. وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء بلفظ الجمع لقيامه مقام {الرسل} وقيل: ليفهم بذلك أن هذه طريقة كل رسول كما تقول تخاطب تاجراً: يا تجار اتقوا الربا.
وقال الطبري: الخطاب لعيسى، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه والمشهور من بقل البرية. وقال الزمخشري: ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي {آويناهما} وقلنا لهما هذا الذي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا وكلا مما رزقناكما واعملا صالحاً اقتداء بالرسل والطيبات الحلال لذيذاً كان أو غير لذيذ. وقيل: ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه ويشهد له {ذات قرار ومعين} وقدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح دلالة على أنه لا يكون صالحاً إلاّ مسبوقاً بأكل الحلال.
{إني بما تعملون عليم} تحذير في الظاهر والمراد اتباعهم {وإن هذه أمتكم} الآية تقدم تفسير مثلها في أواخر الأنبياء. وقرأ الكوفيون {وإن} بكسر الهمزة والتشديد على الاستئناف، والحرميان وأبو عمرو بالفتح والتشديد أي ولأن، وابن عامر بالفتح والتخفيف وهي المخففة من الثقيلة، ويدل على أن النداء للرسل نودي كل واحد منهم في زمانه قوله {وإن هذه أمتكم}.
وقوله {فتقطعوا} وجاء هنا {وأنا ربكم فاتقون} وهو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء {فاعبدون} لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين من قوم نوح، والأمم الذين من بعدهم وفي الأنبياء وإن تقدمت أيضاً قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته تعالى وجاء هنا {فتقطعوا} بالفاء إيذاناً بأن التقطيع اعتقب الأمر بالتقوى، وذلك مبالغة في عدم قبولهم وفي نفارهم عن توحيد الله وعبادته. وجاء في الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء، واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة، وفرح كل حزب بما لديه دليل على نعمته في ضلاله، وأنه هو الذي ينبغي أن يعتقد وكأنه لا ريبة عنده في أنه الحق.
ولما ذكر تعالى من ذكر من الأمم ومآل أمرهم من الإهلاك حين كذبوا الرسل كان ذلك مثالاً لقريش، فخاطب رسوله في شأنهم بقوله {فذرهم في غمرتهم حتى حين} وهذا وعيد لهم حيث تقطعوا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقائل هو شاعر، وقائل ساحر، وقائل به جنة كما تقطع من قبلهم من الأمم كما قال {أتواصوا به بل هم قوم طاغون} قال الكلبي {في غمرتهم} في جهالتهم. وقال ابن بحر: في حيرتهم. وقال ابن سلام: في غفلتهم. وقيل: في ضلالتهم {حتى حين} حتى ينزل بهم الموت. وقيل: حتى يأتي ما وعدوا به من العذاب. وقيل: هو يوم بدر. وقيل: هي منسوخة بآية السيف. وقرأ الجمهور {في غمرتهم} وعليّ بن أبي طالب وأبو حيوة والسلمي في غمراتهم على الجمع لأن لكل واحد غمرة، وعلى قراءة الجمهور فغمرة تعم إذا أضيفت إلى عام.
وقال الزمخشري: الغمرة الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلاً لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل، قال الشاعر:
كأني ضارب في غمرة لعب

سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخره انتهى. ثم وقفهم تعالى على خطأ رأيهم في أن نعمة الله عليهم بالمال ونحوه إنما هي لرضاه عن حالهم، وبيّن تعالى أن ذلك إنما هو إملاء واستدراج إلى المعاصي واستجرار إلى زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعاجلة بالإحسان.
وقرأ ابن وثاب {إنما نمدهم} بكسر الهمزة. وقرأ ابن كثير في رواية يمدهم بالياء، وما في {أنما} إما بمعنى الذي أو مصدرية أو كافة مهيئة إن كانت بمعنى الذي فصلتها ما بعدها، وخبر إن هي الجملة من قوله {نسارع لهم في الخيرات} والرابط لهذه الجملة ضمير محذوف لفهم المعنى تقديره: نسارع لهم به في الخيرات، وحسن حذفه استطالة الكلام مع أمن اللبس. وتقدم نظيره في قوله {إنما نمدهم به} وقال هشام بن معونة: الضرر الرابط هو الظاهر وهو {في الخيرات} وكان المعنى {نسارع لهم} فيه ثم أظهر فقال {في الخيرات} فلا حذف على هذا التقدير، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد، فالخيرات من حيث المعنى هي الذي مدُّوا به من المال والبنين وإن كانت ما مصدرية فالمسبوك منها ومما بعدها هو مصدر اسم إن وخبر إن هو {نسارع} على تقدير مسارعة فيكون الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفع الفعل، والتقدير أيحسبون أن إمدادنا لهم بالمال والبنين مسارعة لهم في الخيرات. وإن كانت ما كافة مهيئة فهو مذهب الكسائي فيها هنا فلا تحتاج إلى ضمير ولا حذف، ويجوز الوقف على {وبنين} كما تقول حسبت إنما يقوم زيد، وحسبت أنك منطلق، وجاز ذلك لأن ما بعد حسبت قد انتظم مسنداً ومسنداً إليه من حيث المعنى، وإن كان في ما يقدر مفرداً لأنه ينسبك من أن وما بعدها مصدر.
وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة يسارع بالياء وكسر الراء فإن كان فاعل {نسارع} ضمير يعود على ما بمعنى الذي، أو على المصدر المنسبك من ما نمد فنسارع خبر لأن ولا ضمير ولا حذف أي يسارع هو أي الذي يمد ويسارع، هو أي إمدادنا. وعن ابن أبي بكرة المذكور بالياء وفتح الراء مبنياً للمفعول. وقرأ الحر النحوي نسرع بالنون مضارع أسرع {بل لا يشعرون} إضراب عن قوله {أيحسبون} أي بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور فيتأملوا ويتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخير وفيه تهديد ووعيد.

.تفسير الآيات (57- 67):

{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)}
لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين ووعدهم وذكرهم بأبلغ صفاتهم والإشفاق أبلغ التوقع والخوف ومنهم من حمل الخشية على العذاب والمعنى والذين هم من عذاب رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وهو قول الكلبي ومقاتل ومّنْ خَشْيَةِ متعلق بمشفقون قاله الحوفي وقال ابن عطية ومِنْ في مّنْ خَشْيَةِ هي لبيان جنس الإشفاق والإشفاق إنما هو من عذاب الله والآيات تعم القرآن والعبر والمصنوعات التي لله وغير ذلك مما فيه نظر وفي كل شيء له آية
ثم ذكر نفي الإشراك وهو عبادتهم آلهتهم التي هي الأصنام إذ لكفار قريش أن تقول نحن نؤمن بآيات ربنا ونصدق بأنه المخترع الخالق وقيل ليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشرك لله لأن ذلك داخل في قوله وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ المراد نفي الشرك للحق وهو أن يخلصوا في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه وقرأ الجمهور يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي خائفة أن لا يقبل منهم لتقصيرهم أنهم أي وجلة لأجل رجوعهم إلى الله أي خائفة لأجل ما يتوقعون من لقاء الجزاء قال ابن عباس وابن جبير هو عام في جميع أعمال البر كأنه قال والذين يفعلون من أنفسهم في طاعة الله ما بلغه جهدهم وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي يأتون ما أتوا من الإتيان أي يفعلون ما فعلوا قالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله قال «لا يا ابنة الصديق ولكنه هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل» قيل وجل العارف من طاعته أكثر من مخالفته لأن المخالفة تمحوها التوبة والطاعة تطلب التصحيح وقال الحسن المؤمن يجمع إحساناً وشفقة والمنافق يجمع إساءة وأمناً وقرأ الأعمش أَنَّهُمْ بالكسر وقال أبو عبد الله الرازي ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن لأن الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز والثانية على تحصيل الإيمان بالله والثالثة على ترك الرياء في الطاعة والرابعة على أن المستجمع لهذه الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع خوف من التقصير وهو نهاية مقامات الصديقين انتهى
أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ جملة في موضع خبر أن قال ابن زيد الخَيْرَاتِ المخافتة والإيمان والكف عن الشرك قال الزمخشري يُسَارِعُونَ في الْخَيْراتِ يحتمل معنيين أحدهما أن يراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا المنافع ووجوه الإكرام كما قال فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَةِ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا في ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ لأنهم إذا سورع بها لهم فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها وهذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين انتهى وقرأ الحر النحوي يسرعون مضارع أسرع يقال أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد وأما المسارعة فالمسابقة أي يسارعون غيرهم قال الزجاج يُسَارِعُونَ أبلغ من يسرعون انتهى وجهة المبالغة أن المفاعلة تكون من اثنين فتقتضي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه
وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ الظاهر أن الضمير في لَهَا عائد على الخَيْرَاتِ أي سابقون إليها تقول سبقت لكذا وسبقت إلى كذا ومفعول سَابِقُونَ محذوف أي سابقون الناس وتكون الجملة تأكيداً للتي قبلها مفيدة تجدد الفعل بقوله يُسَارِعُونَ وثبوته بقوله سَابِقُونَ وقيل اللام للتعليل أي لأجلها سابقون الناس إلى رضا الله وقال الزمخشري لَهَا سَابِقُونَ أي فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها انتهى وهذان القولان عندي واحد قال أيضاً أو إياها سابقون أي ينالوها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا انتهى ولا يدل لفظ لَهَا سَابِقُونَ على هذا التفسير لأن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق فكيف يقال لهم وهم يسبقون الخيرات هذا لا يصح وقال أيضاً ويجوز أن كون لَهَا سَابِقُونَ خبراً بعد خبر ومعنى وهم لها كمعنى قوله أنت لها انتهى وهذا مروي عن ابن عباس قال المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها ورجحه الطبري بأن اللام متمكنة في المعنى انتهى والظاهر القول الأول وباقيها متعسف وتحميل للفظ غير ظاهره وقيل الضمير في لَهَا عائد على لجنة وقيل على الأمم
وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في آخر البقرة وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ أي كتاب فيه إحصاء أعمال الخلق يشير إلى الصحف الت يقرؤون فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ وقيل القرآن
بَلْ قُلُوبُهُمْ أي قلوب الكفار في ضلال قد غمرها كما يغمر الماء مّنْ هَاذَا أي من هذا العمل الذي وصف به المؤمنون أو من الكتاب الذي لدينا أو من القرآن والمعنى من اطراح هذا وتركه أو يشير إلى الذين بجملته أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم أقوال خمسة وَلَهُمْ أَعْمَالٌ من دون ذلك أي من دون الغمرة والضلال المحيط بهم فالمعنى أنهم ضالون معرضون عن الحق وهم مع ذلك لهم سعايات فساد وصفهم تعالى بحالتي شر قال هذا المعنى قتادة وأبو العالية وعلى هذا التأويل الإخبار عما سلف من أعمالهم وعماهم فيه وقيل الإشارة بذلك إلى قوله مّنْ هَاذَا وكأنه قال لهم أعمال من دون الحق أو القرآن ونحوه وقال الحسن ومجاهد إنما أخبر بقوله وَلَهُمْ أَعْمَالٌ عما يستأنف من أعمالهم أي أنهم لهم أعمال من الفساد وعن ابن عباس أَعْمَالٌ سيئة دون الشرك وقال الزمخشري وَلَهُمْ أَعْمَالٌ متجاوزة متخطئة لذلك أي لما وصف به المؤمنون هم معتادون وبها ضارون ولا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب وحَتَّى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام والكلام الجملة الشرطية انتهى وقيل الضمير في قوله بَلِ يعود إلى المؤمنين المشفقين هُمْ في غَمْرَةٍ من هذا وصف لهم بالحيرة كأنه قيل وَهُمْ مع ذلك الخوف والوجل كالمتحيرين في أعمالهم أهي مقبولة أم مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه ويريد بالأعمال الأول الفرائض وبالثاني النوافل
حتى إذا أخذنا مترفيهم رجوع إلى وصف الكفار قاله أبو مسلم قال أبو عبد الله الرازي وهو أولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما اتصل به كان أولى من رده إلى ما بعده خصوصاً وقد رغب المرء في الخير بأن يذكر أن أعمالهم محفوظة كما يحذر بذلك من الشر وأن يوصف بشدة فكرة في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبوله أو رده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر فإن قيل فما المراد بقوله مّنْ هَاذَا قلنا إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم بين استيلاء ذلك على قلوبهم انتهى وتقدم قول الزمخشري في حَتَّى أنها التي يبتدأ بعدها الكلام وأنها غاية لما قبلها وقد ردّ ذلك أنهم معتادون لها حتى يأخذهم الله بالعذاب وقال الحوفي حَتَّى غاية وهي عاطفة إِذَا ظرف يضاف إلى ما بعده فيه معنى الشرط إِذَا الثانية في موضع جواب الأولى ومعنى الكلام عامل في إِذَا والتقدير جأروا فيكون جأد العامل في إِذَا الأولى والعامل في الثانية أَخَذْنَا انتهى وهو كلام مخبط ليس أهلاً أن يرد
وقال ابن عطية وحَتَّى حرف ابتداء لا غير وإِذَا الثانية التي هي جواب يمنعان من أن تكون حتى غاية لعاملون انتهى وقال مكي أي لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل البر لَهَا عَامِلُونَ إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يضجون ويستغيثون والمترفون المنعمون والرؤساء والعذاب القحط سبع سنين والجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقد والأولاد وقيل العذاب قتلهم يوم بدر وقيل عذاب الآخرة والظاهر أن الضمير في إِذَا هُمْ عائد على مُتْرَفِيهِمْ إذ هم المحدث عنهم صاحوا حين نزل بهم العذاب وقيل يعود على الباقين بعد المعذبين قال ابن جريج المعذبون قتلى بدر والذين يَجْئَرُونَ أهل مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا
لاَ تَجْئَرُواْ الْيَوْمَ أي يقال لهم إما حقيقة تقول لهم الملائكة ذلك وإما مجازاً أي لسان الحال يقول ذلك هذا إن كان الذين يجأرون هم المعذبون وعلى قول ابن جريج ليس القائل الملائكة وقال قتادة يَجْئَرُونَ يصرخون بالتوبة فلا يقبل منهم وقال الربيع بن أنس تجأرون تجزعون عبر بالصراخ بالجزع إذ الجزع سببه إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ أي لا تمنعون من عذابنا أو لا يكون لكم نصر من جهتنا فالجوار غير نافع لكم ولا مجد
قَدْ كَانَتْ ءايَتِى هي آيات القرآن تَنكِصُونَ ترجعون استعارة للإعراض عن الحق وقرأ علي بن أبي طالب تَنكِصُونَ بضم الكاف والضمير في بِهِ عائد على المصدر الدال عليه تَنكِصُونَ أي بالنكوص والتباعد من سماع الآيات أو على الآيات لأنها في معنى الكتاب وضمن مُسْتَكْبِرِينَ معنى مكذبين فعُدِّي بالباء أو تكون الباء للسبب أي يحدث لكم بسبب سماعه استكبار وعتو والجمهور على أن الضمير في بِهِ عائد على الحرم والمسجد وإن لم يجر له ذكر وسوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت وأنه لم تكن لهم معجزة إلاّ أنهم ولاته والقائمون به وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويحسنه أن في قوله تُتْلَى عَلَيْكُمْ دلالة على التالي وهو الرسول عليه السلام وهذه أقوال تتعلق فيها بمستكبرين وقيل تتعلق بسامراً أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً وسب من أتى به
وقرأ الجمهور سَامِراً وابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمر وسمراً بضم السين وشد الميم مفتوحة جمع سامر وابن عباس أيضاً وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك كذلك وبزيادة ألف بين الميم والراء جمع سامر أيضاً وهما جمعان مقيسان في مثل سامر
وقرأ الجمهور تَهْجُرُونَ بفتح التاء وضم الجيم وروى ابن أبي عاصم بالياء على سبيل الالتفات قال ابن عباس تَهْجُرُونَ الحق وذكر الله وتقطعونه من الهجر وقال ابن زيد وأبو حاتم من هجر المريض إذا هذى أي يقولون اللغو من القول وقرأ ابن عباس وابن محيصن ونافع وحميد بضم التاء وكسر الجيم مضارع اهجر أي يقولون الهجر بضم الهاء وهو الفحش قال ابن عباس إشارة إلى السب للصحابة وغيرهم وقرأ ابن مسعود وابن عباس أيضاً وزيد بن عليّ وعكرمة وأبو نهيك وابن محيصن أيضاً وأبو حيوة كذلك إلاّ أنهم فتحوا الهاء وشددوا الجيم وهو تضعيف من هجر ماضي الهجر بالفتح بمعنى مقابل الوصل أو الهذيان أو ماضي الهجر وهو الفحش وقال ابن جني لو قيل إن المعنى أنكم مبالغون في المجاهرة حتى أنكم إن كنتم سمراً بالليل فكأنكم تهجرون في الهاجرة على الاقتضاح لكان وجهاً